في فصلٍ جديد لمأساة هزّت الضمير المغربي طوال شهور، طوت محكمة الاستئناف، اليوم الثلاثاء، إحدى أشد القضايا إيلامًا: قضية الطفلة غيثة، تلك الصغيرة التي تحوّل صيفها في شاطئ سيدي رحال سنة 2025 إلى جرح لا يندمل، بعدما دهستها سيارة دخلت منطقة يمنع الاقتراب منها أصلًا.
لم يكن قرار المحكمة مجرد حكم عابر، بل كان محطة فاصلة في مسار طويل من الانتظار والألم. فقد اختارت هيئة الاستئناف تثبيت الحكم الابتدائي في شقّه الجنحي، بإدانة المتهم بعشرة أشهر حبسًا نافذًا وغرامة لا تتجاوز 500 درهم، بعد أن تأكد أن السائق اقتحم بسيارته، منطقة الكثبان الرملية المحظورة، ضاربًا عرض الحائط بالقانون وبالتعليمات الصريحة للسلطات المحلية.
أما على المستوى المدني، فقد حمّلت المحكمة المتهم تعويضًا ماليًا قدره 400 ألف درهم لفائدة غيثة، اعترافًا بحجم الخراب الجسدي والنفسي الذي لحق بجسدها الصغير وروحها. كما جرى استبعاد شركة التأمين من الملف، مع فتح أجل عشرة أيام للجوء إلى الطعن.
لكنّ اللحظة التي غيّرت مسار هذه القضية، كانت حين وقفت المحكمة الابتدائية الزجرية ببرشيد على تفاصيل تقرير الخبرة الطبية الذي أنجزه الخبير المحلّف الدكتور نور الدين هلال، بطلب من أسرة الضحية… وهنا فقط بدأت تتعرّى فظاعة ما وقع.
التقرير كان أشبه بمرآة تعكس جرحًا أكبر من أن تستوعبه الأوراق. إذ كشف أن الطفلة ذات الخمس سنوات تعرّضت لـكسر خطير في الجهة الأمامية اليمنى من الجمجمة، ضغط مباشرة على الفص الجبهي للدماغ، مُحدثًا ورمًا دمويًا بين العظم والقشرة الخارجية. وضعٌ دقيقٌ لا يحتمل التردد، استدعى عملية جراحية مستعجلة لإنقاذ حياتها وتخفيف الضغط الدماغي وتثبيت العظام.
ولم يتوقف الألم هنا؛ فقد سجّل التقرير جرحًا غائرًا في فروة الرأس، وتمزقًا في الجفن الأيمن تطلّب خياطة دقيقة، وخدوشًا متعددة في الوجه واليدين. وكانت غيثة حين وصلت المصحة فاقدةً للوعي بالكامل—وهو مؤشر صارخ على قوة الضربة التي تعرّضت لها.
وفي الجانب الأتعس، تحدثت الخبرة عن عجز كلي مؤقت لمدة 120 يومًا، لكنه مؤقت فقط في اللفظ، لأن الواقع أعمق: فغيثة تعاني عجزًا جزئيًا دائمًا بنسبة 80٪، ما يعني حاجتها إلى متابعة طبية وتمريضية مستمرة، ورعاية خاصة قد تمتد طوال حياتها.
كما رصد التقرير انعكاسات نفسية لا تقل خطورة: نوبات بكاء مفاجئة، تبول لا إرادي، اضطرابات في النوم والتركيز، وتغيرات سلوكية تشير إلى صدمة نفسية عميقة. وهو ما يستوجب علاجًا نفسيًا طويل الأمد، إضافة إلى حصص الترويض الذهني والعضلي لمساعدتها على استعادة جزء من وظائفها.
قضية غيثة لم تكن مجرد ملف قضائي؛ كانت مرآة موجعة لمدى هشاشة سلامة الأطفال حين يغيب احترام القانون، ودرسًا يُفترض أن يبقى حاضرًا في الذاكرة الجماعية: أنّ دقيقة طيش قد تغيّر مصير طفلة… إلى الأبد